تساءلنا في مقالة ماضية: "ماذا يعني عدوان واسع في الضفة الغربية؟"، وذلك بعد تصاعد التهديدات الإسرائيلية بإطلاق ذلك العدوان على شماليّ الضفّة الغربية، وقد بيّنا في تلك المقالة أنّ هذا العدوان، لو أطلقه الاحتلال بالفعل فلن يكون على صورة عملية "السور الواقي" التي كانت في العام 2002، لاختلاف الظروف اليوم سياسيّاً وأمنيّاً، ومن ثمّ فالراجح أنّ العدوان سيكون مركز في منطقة محدّدة، ويقصد عدة أهداف في وقت واحد، لفترة مؤقّتة، ولكن أطول من الاقتحامات السابقة التي اعتادها الاحتلال في السنوات الأخيرة.
لم يَطُل الأمر حتى أطلق الاحتلال عدوانه، على مخيم جنين على وجه الخصوص، واتضح المقصود منه "عملية واسعة" قوّات ضخمة مشتركة، معزّزة بسلاح الجوّ، تبدأ بقصف المخيّم بالطائرات المسيّرة، فالاقتحام بالجرافات والدبابات، ومن ثمّ لم يَبق من شأن العدوان سوى معرفة الوقت الذي سوف يستغرقه والدمار الذي سوف يخلّفه.
أعداد كبيرة من القوات البرّية، ظلّ العدوّ يدفع بالمزيد منها باستمرار، وقوات من فرق الوحدات الخاصّة المتعدّدة المعروفة، وفرق كوماندوز ومظليين، وطائرات مقاتلة تغطّي سماء المخيم، وأخرى مسيّرة تقصف الأهداف المقصودة طول الوقت، ووحدات من جهاز "الشاباك" تتولّى مهمّات استخباراتية وقتالية، هدفها بضع عشرات من المقاتلين ببنادق خفيفة في مخيم مساحته لا تصل إلى كيلومتر مربع واحد!
أطلق الاحتلال على عدوانه اسم "البيت والحديقة". ما يُفهم من هذه التسمية، أنّ دولة الكيان هي البيت، وأنّ الضفّة الغربية حديقة هذا الكيان، أي هي بحسب التسمية جزء من الامتداد الطبيعي للبيت، وداخلة في حيّز البيت، بيد أنّ تسميتها بالحديقة لها دلالات أخرى إضافية، مفادها كلّها أنّ هذه المساحة، كأيّ حديقة، ليست تابعة فحسب، وإنما وفوق ذلك ينبغي أن تكون مريحة، وفرصة متاحة باستمرار للتمدّد.
اقرأ أيضًا: جنين في مواجهة إرهاب الدولة
اقرأ أيضًا: بين جنين والداخل المحتل.. مفاجآت يخشاها الاحتلال
الضفّة الغربية بالنسبة للاحتلال مجال حيوي، وعمق استراتيجي، وضرورة أمنية، ومتنفس استيطاني، وحلّ للتناقضات الداخلية بتخصيصها لمجتمعات استيطانية من مشارب اجتماعية وفكرية مختلفة عن المجتمع الاستيطاني، وتنطوي على ثروات مائية وزراعية، وفيها إمكانات اقتصادية وتنموية.. بالضبط هذا المعنى في "الحديقة"، وهذا يقتضي تصوّراً سياسيّاً لها، حين النظر إلى كونها يعيش فيها أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني.
بالنسبة للأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، تتفوّق الضفّة الغربية على قطاع غزّة، في وعي الاحتلال، من حيث الأهمّيّة الاستراتيجية والأيديولوجية، وبنظرة إلى الفلسطينيين، فهي المساحة الأكبر وعدد السكان الأكبر، والأكثر تداخلاً مع القضايا الجوهرية، والأكثر قدرة على إثارة المخاوف الأمنية. فبالإضافة إلى ما سبق، تمثّل الضفّة الغربية محيط القدس، التي هي في الأصل جزء منها، قبل أن يفتعل الاحتلال فوارق سياسية واجتماعية بين سكّان القدس وسكّان الضفّة الغربية تالياً على احتلاله لشرقيّ القدس عام 1967. وتاريخيّاً كان يمثّل وسط الضفة الغربية تبعية إدارية لمدينة القدس بما في ذلك مدن رام الله وبيت لحم، وفي وقت لاحق عظّم الاحتلال من الموانع الفاصلة بين القدس ومحيطها. ويبقى سكّان الضفّة الغربية، رغم كلّ الحلول الأمنية واللوجستية التي يفرضها الاحتلال، متداخلين بقدر ما مع المستوطنين والأراضي المحتلة عام 1948. فبكلمة أخرى، يمكن القول، هنا في الضفّة الغربية كل القضايا المهمّة، وكلّ المخاوف الأمنية.
لا يحتاج ذلك إلى معالجات أَمنيّة فحسب، بل إلى حلول سياسيّة مؤسّسة على الأمن بالدرجة الأولى. ليس ثمّة مجال لعرض كل الأفكار التي تُقلّبُها المؤسّسة الإسرائيلية بخصوص الضفّة الغربية، لكن يمكن اختصار كلّ ما يقال، بأنّ هذه المنطقة ينبغي أن تبقى "حديقة آمنة وهادئة دون أن يُقدّم لسكانها الأصليين أيّ شيء سياسيّ". يريد الإسرائيلي تاريخيّاً شطب الوعي القوميّ للفلسطينيين وطمس هويّتهم السياسية، بحلول تضمن له الأمن والقدرة على التمدّد، وفي الوقت نفسه توفّر له جسراً للعبور إلى الإقليم والعالم، للقول إنّه لم تَعُد توجد مشكلة جوهريّة في فلسطين.
بدأت الحلول السياسية بالتبلور لدى الاحتلال بخصوص الضفّة الغربية مع توقيع اتفاقية أوسلو، وجرى التحوير المستمرّ على الوقائع الناجمة عن اتفاقية أوسلو وإنشاء سلطة فلسطينية؛ بحسب المعطيات السياسية والأمنية واختلاف الرؤى لدى الأوساط الإسرائيلية. لكن يبقى الحاصل من ذلك كلّه، أنّ أيّ حالة مقاومة جادّة في الضفّة الغربيّة، لا تثير القلق الأمني الإسرائيلي فحسب، وإنما تضرب في الخطة الدعائية الإسرائيلية التي تروم التمدّد على جسر من دعاية الهدوء وهندسة الوعي الفلسطيني للقبول بالأمر الواقع.
يمكن تلخيص ما سبق، أنّ المقاومة في الضفّة الغربية ترفع القلق الأمني للاحتلال، وتضرب في خططه السياسية، وتعرّي دعايته الإعلامية، والأهمّ أنّها تجدّد الوعي القومي لدى الفلسطينيين، (المقصود بالوعي القومي، الوعي السياسي بالهوية الفلسطينية)، ومن ثمّ تجدّد إرادة المقاومة.
حالة المقاومة هذه الجارية في الضفّة، بتمثّلاتها كلّها، لا في جنين وحدها، فعل من المستحيل، أي حين تحليلها وسط الظروف الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة بها، تكشف عن مستويات الإعجاز التي فيها، وبالضرورة إدراك الاحتلال لفشله في عملية إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني التي أخذ يكثّفها أولاً من بعد انتهاء انتفاضة الأقصى، وثانياً من بعد ما يسمى بـ"الانقسام" عام 2007، ومن ثمّ هذا العنف الانتقامي الذي نراه الآن في عمليته على جنين.
حجم العدوان، أي بعدد القوّات، وتنوّع الفرق والوحدات، وكثافة النيران، وطبيعة الآليات، وما تبع ذلك من دمار؛ انعكاس لتلك الحقائق كلّها. لكنه أيضاً انعكاس لما هو أعمق، انعكاس للإدراك الباطن للعدوّ، لأصل القضية، قضية البيت والحديقة وأصحابهما الأصليين. هذا الحشد الذي يتفوّق في حجمه ونوعه على مستوى التحدّي الأمني، كلّ هذا العنف والقصف لأجل بضع عشرات من المقاتلين ببنادق خفيفة، يعني أنّ العدوّ يدرك تماماً أن وجوده في هذه البلاد طارئ، ومن ثمّ يكشف عن هذا العنف كلّه تجاه أصحاب البلاد الأصليين، وتثير رصاصة واحدة قلقه الوجودي بالنحو الظاهر الآن.